بقلم : محمد أحمد طنطاوى
الأحد، 13 أغسطس 2023 09:44 ص
حالة من الجنون يشهدها سوق الذهب في مصر، صعود حاد مفاجئ، ثم هبوط مؤقت، وخطوط دعم ومقاومة غير مفهومة على المستوى الفني، مدعومة بشائعات قوية، يتم ترويجها في الأسواق بمزاعم قرارات نقدية مرتقبة قد تتخذها الدولة خلال الفترة المقبلة، ويتم الترويج لذلك وسط قطاعات كبيرة من التجار من أجل اجتذاب المواطنين مرة أخرى للذهب، الذي ينظر إليه المصريون باعتباره ملاذ آمن وملجأ قوي خلال الأزمات الاقتصادية، وهذه معادلة على جانب كبير من الصواب، لكن ينقصها الكثير من الفهم والتحليل لمنحنيات العرض والطلب الخاصة بالمعدن الأصفر.
“إن لم تكن على استعداد لامتلاك السهم لمدة 10 سنوات، فلا تفكر بامتلاكه لمدة 10 دقائق”، وارن بافيت، الملياردير الأمريكي والمستثمر الأشهر في وول ستريت، وفي هذه المقولة يدلل بها على فكرة أساسية هي أن الاستثمار الناجح يرتبط دائماً بالتحرك على المدى الطويل، وليس المضاربة والمكاسب اللحظية والمقامرة التي يرفضها شكلاً وموضوعاً، لكن للأسف لا تمنع هذه النصائح المضاربون من إفساد الأسواق، والسعي نحو اختطاف المكاسب دون النظر لحيوية العرض والطلب ودورة الاقتصاد ورأس المال.
السوق المصرية تعيش حالة مضاربة على كل المستويات منذ عامين تقريباً، وبالطبع هذه الحالة لها نتائج غير محمودة على المواطن العادي، في ظل أزمة اقتصادية عالمية ومعدلات تضخم غير مسبوقة، خاصة إن كانت هذه المراهنات والمضاربات على قيمة العملة الوطنية، فهذا لن يترجم على أرض الواقع إلا بمزيد من الانفلات والجموح للأسعار، التي باتت تحكمها مسارات معقدة ولا يمكن التوقع بنتائجها، خاصة أن الاستثمار العشوائي – إن جاز التعبير – في الذهب أو العقار عقًد الأمور بصورة لم يتخيلها أحد، فالكل يضارب ويتحرك نحو المكسب السريع، دون إدراك خطورة النتائج الكلية، والعائد على المجتمع ومؤشرات الأمن الاجتماعي، التي يجب أن تظل مستقرة وإيجابية .
عقب عيد الفطر بأيام قليلة التقيت بائع خضروات وفاكهة على ناصية شارع إيران بالدقي، بالقرب من منزلي، توقفت لشراء حاجتي، لكني وجدته غارقاً في متابعة رسائل صوتية تتحدث عن مسارات أسعار الذهب خلال الفترة المقبلة، لشخص لا أعلم هويته أو طبيعة عمله، لكن الملفت أن البائع كان يتابع باهتمام شديد، وكان الصوت مرتفعاً، وحينها سمعت من الخبير المزعوم، أن مستوى 3 آلاف جنيه لجرام الذهب نقطة بيع ممتازة، سوف يهبط منها إلى مستويات 2800 جنيه ثم يعاود الصعود مجدداً حتى يصل 5 آلاف جنيه بنهاية العام الجاري! وحينما لاحظ البائع اهتمامي بسماع الرسائل الصوتية بدأ يستعيد وعيه مرة أخرى ويرجع إلى عالم الطماطم والخيار والبصل!! وبعد حوار مستفيض معه اكتشفت أنه يبيع ويشتري الذهب، ويجمع الدولار من السوق السوداء، بمعاونة مجموعة من أقاربه.
الشاهد من القصة القصيرة السابقة أن المضاربة صارت سلوكاً غالباً في السوق، فالكل يسعى لها، ويرهن أمواله ومدخراته من أجلها، وهذا أنتج بصورة واضحة حالة من البلبلة وعدم اليقين لدى قطاع كبير من الناس، وتخوفات مقلقة من المستقبل القريب، فلا يمكن أن ينهض الاقتصاد وسط هذه الأجواء، فالكل يقطف الأزهار قبل أن تتحول لثمار، فتصبح النتيجة حصاد بلا عائد أو محصول، وهذا له مخاطرة الكبيرة، خاصة على الاقتصاديات النامية، التي تحتاج أولاً إلى تقليص فواتير الاستيراد من الخارج قدر المستطاع، وتنمية قطاعات الزراعة والصناعة من أجل تحقيق اكتفاء معتبر، يضمن استقرار الاقتصاد ويكفل الأمن الاجتماعي.
تحدثت وكتبت كثيراً عن فكرة وعي المستهلك باعتبارها المعيار الحقيقي لاتزان السوق والوصول إلى أفضل النتائج والنجاة من شبح الأزمة العالمية والمناخ الاقتصادي الخانق الذي يشهده العالم أجمع، لكن يبدو أن هذا الوعي يحتاج إلى سنوات طويلة لتثبيته وترسيخه، لذلك يجب أن تكون هناك أدوار للرقابة أولاً ثم الإعلام بأجهزته المختلفة ثانياً، فالرقيب ممثلة في الحكومة وأجهزتها المعنية يجب أن تمارس دورها في حماية الناس ومواجهة تجارة العملة بكل أشكالها وصورها، والرقابة على تسعير الذهب باعتباره سلعة مقومة بالدولار، يجب أن تتحرك بشكل رسمي كما الحال في البنوك، التي لا يمكنها بيع العملات الأجنبية بأسعار السوق السوداء، بينما التحرك الثاني يجب أن يمارسه الإعلام من خلال توسيع دوره كسلطة شعبية وأداة رأي عام قوية تبحث في آليات التسعير وحجم العرض والطلب والمضاربات الوهمية، دون أن يتقلص دورها في عرض الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً، فهذا ليس أكثر من ترويج لعمليات المضاربة التي تتم على المعدن الأصفر.
التعليقات