التخطي إلى المحتوى

من كان ليجرؤ قبل النصف الثاني من القرن العشرين على الدعوة إلى تعليم الكتابة الإبداعية، ولا سيما كتابة الرواية والشعر؟ ومن كان ليعتبر أن فن الأدب، شعراً ونثراً، قابل لأن يعلم شأن أي حرفة، أو اختصاص، وأن يصير المتعلم فناناً بدوره ومبدعاً وأديباً بفضل هذا التعلم، وإن تكن معارف هذا الفن وتاريخه وآثاره متاحة للعموم، وموضوعة للدرس والتمحيص؟

تعلم الكتابة في محترف

للإجابة لن نخوض في تأريخ الاتجاهات التربوية في الغرب، ولدينا، ولكننا نشير إلى تغير يعادل الانقلاب في النظرة إلى تعليم الفنون والآداب، شأن تعليم كل مادة وتعلمها، وصولاً إلى جعل المتعلم مبدعاً في مجال تعلمه (والفضل يعود إلى التيارات الفلسفية وعلوم النفس، وعلوم التعلم الحديثة، بدءاً من مطلع القرن العشرين، وصولاً إلى الثمانينيات فيه). ولربما جرأ هذا التغير في النظرة البعض على استعارة مفاهيم وطرائق من المجال الحرفي، مثل المشغل، وتفعيلها للكتابة الأدبية، في القصة والرواية والمسرح، والسيرة، وغيرها، وللكتابة غير الأدبية أو المرجعية، مثل التقرير، والبحث، والمقالة، والرسالة الرسمية، والكتاب المفتوح، وغيرها.

وفي الكتاب الصادر حديثاً عن منشورات جدل، الكويت، بعنوان “يوم من حياة كاتب”، وترجمة الكاتب علي زين، تسعة وخمسون نصاً لتسعة وخمسين كاتباً وكاتبة حائزين جوائز وتنويهات من بلادهم لإبداعات لهم، ومساهمات أدبية وتأثيرات أكيدة في الأنواع الأدبية التي كتبوا فيها، والتي تراوحت بين الرواية والقصة القصيرة والشعر. على أن كلاً من هذه النصوص، التي لا يتعدى واحدها ثلاث صفحات، ينطوي على خير الخطوات التي يتبعها الكاتب لإنجاز عمله (روايته، مجموعته الشعرية، القصصية) في ما يمكن وصفه بالروتين اليومي الذي يتيح له إنتاج أعمال ذات رواج وقيمة جمالية، في آنٍ.

نصائح الكتاب للهواة

ولكن قبل المباشرة ببسط أهم الخبرات التي حملها الكتاب، نشير إلى أن عديداً من الكتاب الغربيين المشهورين، كانوا قد بادروا إلى الإدلاء بآراء موجزة حول كيفية الكتابة الأدبية، في ما يمكن اعتباره رؤيتهم الجمالية والأسلوبية، في نصائح يسدونها للأجيال الجديدة من الكتاب والشعراء، نظير ما قام به الروائي التشيكي الراحل ميلان كونديرا في كتابه “فن الرواية”، وستيفن كينغ ذي الأربعين رواية بوليسية والذي أوجز نصائحه في الكتابة بعشرين نقطة – مفتاحية، لمن يهوى نوع الرواية البوليسية، وجيمس إلروي صاحب تجربة رواية الجريمة، وأغاتا كريستي الشهيرة ذات الثمانين رواية وشخصية هركول بوارو ونصائحها الست لكتابة رواية بوليسية مشوقة، وكذلك إريك إيمانويل – شميدت عبر رواياته ومسرحياته، وماكس جاكوب، وهمنغواي، وغيرهم.

بالعودة إلى الكتاب المترجم أعلاه، يرسم الروائيون والشعراء صورة مصغرة لا عن أساليبهم في الكتابة أو طرائقهم المأثورة في تأليف المادة الكتابية فحسب – ولنا عودة إليها لاحقاً – بل إنهم سعوا أيضاً إلى تظهير كيانهم المدني والإنساني، باعتبار كل منهم فرداً ذا مسؤوليات عائلية واجتماعية وتربوية وعلمية ومهنية، وأن انشغال البعض بالكتابة وانهمامه بها، مجالاً للإبداع والخلق الفني، لا يعني انعزاله الكلي عن العالم والمجتمع، وإنما انغراساً في قضاياه، يرفعها إلى مصاف التحف الفنية الخالدة. وبناءً عليه، يظهر للقارئ أن بعض الكتاب، وإن كانوا يضعون الكتابة في أعلى سلم اهتمامهم اليومي، فإنهم يدعون حيزاً زمنياً لاهتماماتهم المنزلية والعائلية، مثل التسوق والرد على المكالمات، والرسائل البريدية، كما يقول الكاتب إيان رانكين، الحائز جائزة أدب الجريمة الدولية (2016)، ويوافقه الكاتب سيباستيان فولك الحائز جائزة الكتاب البريطانية، والذي يذهب بعيداً في جعل الحياة مادة الكتابة الأولى. أما الكاتب سيباستيان باري، الحائز جائزة كوستا لمرتين على التوالي، فيقول إن الحياة غاية الكتابة، وإن “الدفاع عن الحياة (هي) تلك النعمة المجردة والمطلقة للبقاء على قيد الحياة” (ص:93). وهذا يعني، ألا يأنف الكاتب من مس الحياة بإصبعه.

الكتابة التزام كلي

وفي المقابل، ثمة كثير من الكتاب يميلون إلى اعتبار الكتابة الأدبية التزاماً مهنياً نهائياً، يحملهم على اتباع حياة يمكن أن تسمى “داخلية”، بمعنى أنها تتيح للكاتب الانصراف كلياً إلى التأمل في كتابته، والتخطيط لها، وصولاً إلى تأليف آثار أدبية جديرة بالنشر، وتوفير استدامة الكتابة مدى الحياة. ويقول في هذا الشأن الكاتب أنتوني هورويتز: “الكتابة هي الانعزال الانفرادي، هي التكرار مرة بعد أخرى” (ص:79). ويوافقه على ذلك الكاتب نديم أسلم، الروائي البنغالي الإنجليزي، إذ يقول “أنا أقدس الكتابة تقريباً. فهي مثل الحرفة والامتياز والواجب” (ص:114) وفي الشأن نفسه، يقول الكاتب جون بيرنسايد الحائز جائزة كوستا وت. إس. إليوت، في العام نفسه: “فأنا أحب الكتابة، إنها مميزة ومهمة. وهي مهنتي المثلى مدى الحياة، وما رغبتي الوحيدة إلا أن تكون أيام الكتابة أكثر اتساقاً من ذلك” (ص:211).

ولئن كانت مجمل المحاور المشار إليها أعلاه واردة في تقارير الكتاب ويومياتهم المختزلة، فإن القاسم الأهم بين هذه اليوميات، والمحور الرئيس فيها هو الحديث عن كيفية الكتابة الإبداعية، وتدبر طقوس أو أشكال ملازمة لعملية الكتابة، على حد ما أدركته الغالبية العظمى من هؤلاء. ومما ذكره الكتاب، مكان الكتابة، فمنهم من آثر أن تحاط كتابته بنوع من السرية، يلزمه ان يكون بمنأى عن مكان سكنه العادي، فيتخذ له كوخاً، على ما يقر به الكاتب سيباستيان فولك، إذ يقول “في قرية تعدين صغيرة في نيو ساوث ويلز. هناك أملك كوخاً الآن، لكني لست مستعداً للكشف عن اسم القرية” (ص:125). أو يتخذ الكاتب له مكتباً أو منزلاً لقريب منه، على ما يقول الكاتب جوناثان كو: “يمكن أن أكتب في شقة زوجة أخي على بعد أميال قليلة من شقتي…” (ص:23).

وفي المقابل، تجد الأكثرية المطلقة من الكتاب، وإن تكن لا تعير مكان الكتابة اهتمامها الأكبر، نظراً لجهل أفرادها مواقيت الإلهام أو لحظة الإبداع (في المترو، أو المكتب، أو الزيارة، أو الرحلة بالطائرة، أو غيرها)، فإنها تقر ضمناً بأهمية المنزل في عملية الكتابة، بغض النظر عن الأمكنة التي تتيح للكاتب عزلة مطلوبة عن سائر أجواء الأشخاص المقيمين إلى جوار الكاتب، على ما ذكر أكثر من كاتب.

روتين الكتابة

خير ما ينطوي عليه الكتاب هو هذه الشهادات التي نقلت عن الكتاب التسعة والخمسين، والتي يسردون فيها وقائع يوم واحد من حياتهم المكرسة للكتابة، إذ تواترت كلمة روتين، في نصوصهم، لأكثر من عشر مرات، ويعني هذا الأمر أن كلاً من هؤلاء يعي أن فعل الكتابة يتطلب من الكاتب انتظاما طويل المدى، وتكوين عادات مصاحبة للكتابة، وسابقة لها، مثل الاستماع إلى الموسيقى، والقراءة المتواصلة، والقيام بأعمال يومية، مثل الإجابة عن الرسائل البريدية، وإعداد المقالات، وغيرها من الأمور. مثلما تتطلب حرصاً من الكاتب على مراكمة إنتاجه الكتابي، والتي يتراوح تقديرها – يومياً – بين كاتب وآخر، من (300) إلى (1000) كلمة وأكثر، لدى المجلين، ولكن الملاحظ، أيضاً أن زمن الكتابة، في النهار الواحد، وإن تجاوز الساعات الست، عند البعض، فإن فترة الدفق الكتابي تبقى محدودة، ولا تتجاوز الأشهر الثلاثة، بحسب البعض منهم، ولكن ذلك لا يعني أن الإنتاج المكتوب لن يخضع للمراجعة والتدقيق والتصحيح والمحو أحياناً. وهذا الأمر يعود إلى تقدير الكاتب، وحرصه على انتظام سياق الأثر الأدبي العام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن، هل تفضي معرفة كل هذه الأمور، عن الكتاب والكتابة، إلى تحول العارف إلى أديب؟ أم أن أموراً أخرى، وكثيرة، يقتضيها هذا التحول؟ ومع ذلك، يحسن بالقارئ العربي النبه أن يتابع تصورات الكتاب والكاتبات عن فعل الكتابة الأدبية اليومية.

وفي الختام، لا بد لنا من إشارة إلى فكرة ابتدأنا بها المقالة، وهي أن المجال التربوي إذ أفاد كثيراً من مفهوم المشغل الكتابي، عبر مؤسسته إليزابيث بينغ وتابعيها في الغرب من أمثال أوديت وميشال نومايير، وغيرهم، فإنه أضاف إشكالية إلى مجال الكتابة الأدبية، يمكن إيجازها في تساؤل آتٍ: هل يمكن تعلم الأدب عبر المشغل الكتابي وعبر التعرف إلى خبرات الكتاب وبعض يومياتهم وطقوس كتابتهم.

وللتذكير فحسب ببعض أسماء هؤلاء الكتاب الأجانب: إيان زانكين، ووليام بويد، وهيلاري مانتل، وتريسي شوفالييه، وشياو جوه، وهشام مطر، وأنتوني هورويتز، وتيم باركس، وبول بيتي، وآخرين.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *